على أنغام الأغنية الفواحة برائحة المطر، المبللة بأريج الحب، المنسجمة مع إيقاع السماء:
في سحابة على متن التمني
شفت عمري خيالٍ في سحابة»
الأغنية التي ترشنا بالشوق الأبيض، والعطر الدافئ، وترقص في أجوائها أرواحنا كالفراشات الذهبية وسط الضباب، قررت أن أكتب عن المطر.
في عز الغمام، مرت الأغنية كنسمة طارت من رذاذ الثلج. وحلّت السماء حزامها الأزرق، وبدأ الهطول!
كان أصدقائي «يركضون تحت المطر» كالأطفال، يلتقطون الصور، للبروق، لحبات البرد المتناثرة كقطع السكر، للجبال التي تصغي لشلاّل السماء العذب، وأنا مسافر داخل ذاتي، أسرح، أغرق، أبتسم، أحاول اصطياد النجوم، والحروف المختبئة عن الشعراء، داخل هذه الغيوم الكثيفة.
في ذلك المساء البديع، الذي توارت نجومه خلف غمامة صيفية باردة، طلبت من أصدقائي أن يتركوني في خلوة مع الغيم والليل والبرد، في مكان مرتفع، يطل على قصائدنا القديمة، وعلى صمت جبالنا المملوءة بالحكايات والأساطير، وعلى نشيد الرياح في الأودية البعيدة.
على مدى ليلة كاملة عشت بمفردي، مع كراسة ملونة، أسبح داخل أوراقها، وأغرق في عطرها:
«مالي أنيس إلا الغيوم
أو نور براق المطر» (*)
وأحرث الذاكرة وأنسق زهورها.
«في مرايا السحب، لاح لي وجه الرياض»، كما لاح للبدر، بل لاحت لي نجد بأكملها، وهي تكشف عن مفاتنها في ليالي البرد، وتستحم بعطر السماء، وبدأت أتخيل وأشاهد وأتأمل في شاشة السحب العملاقة صور أجدادنا، الذين كانت تحاصرهم شموس الدهر، فوق هذه الرمال المشتعلة، وبين هذه الجبال الموحشة، وكيف كانوا يستقبلون الصباح وحبات المطر ويغنون للحياة من قلوبهم على أنغام الرعد:
«المطر جانا رش معزانا
كبّر الزبده
على معشّانا».
وشاهدت القوافل التي تسير في الصحراء، على ضوء القمر، والعطاشى الذين توسدوا أحلامهم، فوق الرمال المتحركة، وتحت لهيب الشمس الحارقة، وغنوا:
«يامطر تعال، وأذبح لك غزال».
والأطفال الذين رضعوا من أثداء الغيم، حليب الحب والنقاء، وناموا على وسائد العشب، وغنوا أهازيجهم الفيروزية:
«يا الغيم غيِّم عندنا
واربط حصانك في طوارف بيتنا!»
والشعراء الذين قطفوا من أشجار المزن، ما لذ وطاب من باقات المطر، ومن القصائد، والصور، والكلمات المعطرة. كأني أرى رأيَ العين «أشبَهُ الناس بالملائكة» والدي -رحمه الله- الذي غرس وردة المطر في قلبي، وبقي عطرها يسيل في عروقي، وهو في أرقى لحظات التجلي، وأصفى لحظات الفرح، يستقبل الغيم والبرق في قريتنا التي تصدّر الشعر (بادية الشلالحة) بالقصائد، ويغني على أضواء البرق إحدى الروائع القديمة:
«كريم يا برقٍ جذبني شعيله
جاله على ديرة فطوم اشتبابي
عزّل عزيله والبرد في هليله
وأرقاب مزنه كنهن الهضابي»
وفي أجواء (بروق الخريف) بالتحديد، يغني هذا البيت، والذي عرفت فيما بعد أنه لمطلق الثبيتي -رحمه الله-:
«يا سلام الله سلاماً يوم يبدي ويتجلّى
مثل نور الفجر وإلا نور براقاً تلالا»
لا أدري لماذا أشعر أن القصائد الشعبية التي تدور حول المطر، وهذه الأهازيج المطرية، فراشات ملونة، تطير بخفة ورشاقة، في نسمة ندى، عكس قصائد الفصحى، أشعر أنها ثقيلة، ثقيلة لا تطير في مثل هذه الأجواء! باستثناء (أنشودة المطر) بالتحديد، بالتحديد، هذا المقطع، ما أجمله وهو يتأرجح في أعذب أصوات المطر، محمد عبده:
«ومقلتاكِ بي تطيفانِ مع المطر
وعبر أمواج الخليج تمسحُ البروق
شواطىء الخليج بالنجوم والمحار».
ولا أدري لماذا أشعر أن «مطر المدينة» قصيدة بلا روح!
باستثناء الرياض «ترق ملامحها في المطر» كما قال غازي.
فكل المدن الفاتنة، تبدو لي أقل وسامة من القرية التي يغمرها الرذاذ والبرق والضباب.
الذين سكنوا القرى، وصعدوا جبالها، وشربوا من أكواب صخورها وقطفوا من نباتاتها العطرية، وناموا تحت أشجارها، هم أعرف الناس برائحة المطر، وهم أقرب الناس إلى الشعر.
منذ القدم حين تبرق الغيمة في السماء البعيدة، مبشرة بقدومها، تطفئ الشمسَ بدموع الفرح، وتلوّن القرية بالقصائد الخضراء، والزرقاء، والبنفسجية، والحمراء، وتعطر القهوة الشقراء بالهيل والزعفران، وتشعل مواقد الشوق في كل زاوية من زوايا بيوت الشعر والخيام، وتستقبل الغيمة في أعالي الجبال بالغناء، والدموع، والأهازيج. ومنذ القدم على ضفاف الغيم والورد، تمتلئ سلة الشعر بالصور المدهشة، لصيادي اللؤلؤ والمرجان.
من أروع ما رأيت في هذه السلة صورة التقطها الفوتغرافي الكبير سعد بن جدلان بعدسته الشعرية، واصفاً مناظر البروق خلف (ثعول المزن) بدقته المجنونة:
«تقول أكباس غاز من ورى شلال نافورة».
وفي قصائد شاعر المطر خالد الفيصل، ومضات شعرية، تبرق في أجفان السحب، فلا غرابة فهو زارع الورد والأزهار، في زمن الجدب والجفاف، وهو المحلّق القائل:
«أحب أسافر مع سحابٍ تعلى
وأحب فوق الغيم لمع البروقي».
يالها من التقاطة فاتنة في هذا الشطر، لايقتنصها إلا من أشعل الشموس في مرابع الدهشة:
«والسحاب يطاردك بين الشجر»
ويا لَهُ من بيت يضيء كالبرق، داخل القصيدة! ويا لَهُ من لحن يضرب كالرعد في أعماق واحة العشق!:
«ارعدي ياسحابة فوق هاك التلال
صوري له حنيني عقب طول البعادِ».
وما ألطف هذا الشعر في هذا الشطر، الذي لا يكتبه إلا شاعر، ولا يتخيله إلا شاعر، ولا يعيشه إلا شاعر:
«حبه سرابي سرية الغيم بالليل».
ما أجمل أغانينا وأهازيجنا وقصائدنا المغمورة برذاذ المطر، وريح النفل والخزامى! وما أجمل رمالنا وجبالنا التي تحتفي بالعشب وتحرض على الشعر وتصدّر الجمال!
حين نشد الرحال في الصيف للدول التي «تموت من البرد حيتانها» بحثاً عن رغوة ثلج، ونسمة عشب، ولمعة نار، لا نشعر بهذه النشوة وهذا العطر. «المطر خارج حدودنا زهرة بلا شذى، أغنية بلا لحن، صباح بلا ندى»، قلت هذا الكلام ذات مرة وأنا أشاهد حبال المطر تتمايل مع أمواج الضباب فوق أحد أجمل أنهار العالم.
في سحابة على متن التمني
شفت عمري خيالٍ في سحابة»
الأغنية التي ترشنا بالشوق الأبيض، والعطر الدافئ، وترقص في أجوائها أرواحنا كالفراشات الذهبية وسط الضباب، قررت أن أكتب عن المطر.
في عز الغمام، مرت الأغنية كنسمة طارت من رذاذ الثلج. وحلّت السماء حزامها الأزرق، وبدأ الهطول!
كان أصدقائي «يركضون تحت المطر» كالأطفال، يلتقطون الصور، للبروق، لحبات البرد المتناثرة كقطع السكر، للجبال التي تصغي لشلاّل السماء العذب، وأنا مسافر داخل ذاتي، أسرح، أغرق، أبتسم، أحاول اصطياد النجوم، والحروف المختبئة عن الشعراء، داخل هذه الغيوم الكثيفة.
في ذلك المساء البديع، الذي توارت نجومه خلف غمامة صيفية باردة، طلبت من أصدقائي أن يتركوني في خلوة مع الغيم والليل والبرد، في مكان مرتفع، يطل على قصائدنا القديمة، وعلى صمت جبالنا المملوءة بالحكايات والأساطير، وعلى نشيد الرياح في الأودية البعيدة.
على مدى ليلة كاملة عشت بمفردي، مع كراسة ملونة، أسبح داخل أوراقها، وأغرق في عطرها:
«مالي أنيس إلا الغيوم
أو نور براق المطر» (*)
وأحرث الذاكرة وأنسق زهورها.
«في مرايا السحب، لاح لي وجه الرياض»، كما لاح للبدر، بل لاحت لي نجد بأكملها، وهي تكشف عن مفاتنها في ليالي البرد، وتستحم بعطر السماء، وبدأت أتخيل وأشاهد وأتأمل في شاشة السحب العملاقة صور أجدادنا، الذين كانت تحاصرهم شموس الدهر، فوق هذه الرمال المشتعلة، وبين هذه الجبال الموحشة، وكيف كانوا يستقبلون الصباح وحبات المطر ويغنون للحياة من قلوبهم على أنغام الرعد:
«المطر جانا رش معزانا
كبّر الزبده
على معشّانا».
وشاهدت القوافل التي تسير في الصحراء، على ضوء القمر، والعطاشى الذين توسدوا أحلامهم، فوق الرمال المتحركة، وتحت لهيب الشمس الحارقة، وغنوا:
«يامطر تعال، وأذبح لك غزال».
والأطفال الذين رضعوا من أثداء الغيم، حليب الحب والنقاء، وناموا على وسائد العشب، وغنوا أهازيجهم الفيروزية:
«يا الغيم غيِّم عندنا
واربط حصانك في طوارف بيتنا!»
والشعراء الذين قطفوا من أشجار المزن، ما لذ وطاب من باقات المطر، ومن القصائد، والصور، والكلمات المعطرة. كأني أرى رأيَ العين «أشبَهُ الناس بالملائكة» والدي -رحمه الله- الذي غرس وردة المطر في قلبي، وبقي عطرها يسيل في عروقي، وهو في أرقى لحظات التجلي، وأصفى لحظات الفرح، يستقبل الغيم والبرق في قريتنا التي تصدّر الشعر (بادية الشلالحة) بالقصائد، ويغني على أضواء البرق إحدى الروائع القديمة:
«كريم يا برقٍ جذبني شعيله
جاله على ديرة فطوم اشتبابي
عزّل عزيله والبرد في هليله
وأرقاب مزنه كنهن الهضابي»
وفي أجواء (بروق الخريف) بالتحديد، يغني هذا البيت، والذي عرفت فيما بعد أنه لمطلق الثبيتي -رحمه الله-:
«يا سلام الله سلاماً يوم يبدي ويتجلّى
مثل نور الفجر وإلا نور براقاً تلالا»
لا أدري لماذا أشعر أن القصائد الشعبية التي تدور حول المطر، وهذه الأهازيج المطرية، فراشات ملونة، تطير بخفة ورشاقة، في نسمة ندى، عكس قصائد الفصحى، أشعر أنها ثقيلة، ثقيلة لا تطير في مثل هذه الأجواء! باستثناء (أنشودة المطر) بالتحديد، بالتحديد، هذا المقطع، ما أجمله وهو يتأرجح في أعذب أصوات المطر، محمد عبده:
«ومقلتاكِ بي تطيفانِ مع المطر
وعبر أمواج الخليج تمسحُ البروق
شواطىء الخليج بالنجوم والمحار».
ولا أدري لماذا أشعر أن «مطر المدينة» قصيدة بلا روح!
باستثناء الرياض «ترق ملامحها في المطر» كما قال غازي.
فكل المدن الفاتنة، تبدو لي أقل وسامة من القرية التي يغمرها الرذاذ والبرق والضباب.
الذين سكنوا القرى، وصعدوا جبالها، وشربوا من أكواب صخورها وقطفوا من نباتاتها العطرية، وناموا تحت أشجارها، هم أعرف الناس برائحة المطر، وهم أقرب الناس إلى الشعر.
منذ القدم حين تبرق الغيمة في السماء البعيدة، مبشرة بقدومها، تطفئ الشمسَ بدموع الفرح، وتلوّن القرية بالقصائد الخضراء، والزرقاء، والبنفسجية، والحمراء، وتعطر القهوة الشقراء بالهيل والزعفران، وتشعل مواقد الشوق في كل زاوية من زوايا بيوت الشعر والخيام، وتستقبل الغيمة في أعالي الجبال بالغناء، والدموع، والأهازيج. ومنذ القدم على ضفاف الغيم والورد، تمتلئ سلة الشعر بالصور المدهشة، لصيادي اللؤلؤ والمرجان.
من أروع ما رأيت في هذه السلة صورة التقطها الفوتغرافي الكبير سعد بن جدلان بعدسته الشعرية، واصفاً مناظر البروق خلف (ثعول المزن) بدقته المجنونة:
«تقول أكباس غاز من ورى شلال نافورة».
وفي قصائد شاعر المطر خالد الفيصل، ومضات شعرية، تبرق في أجفان السحب، فلا غرابة فهو زارع الورد والأزهار، في زمن الجدب والجفاف، وهو المحلّق القائل:
«أحب أسافر مع سحابٍ تعلى
وأحب فوق الغيم لمع البروقي».
يالها من التقاطة فاتنة في هذا الشطر، لايقتنصها إلا من أشعل الشموس في مرابع الدهشة:
«والسحاب يطاردك بين الشجر»
ويا لَهُ من بيت يضيء كالبرق، داخل القصيدة! ويا لَهُ من لحن يضرب كالرعد في أعماق واحة العشق!:
«ارعدي ياسحابة فوق هاك التلال
صوري له حنيني عقب طول البعادِ».
وما ألطف هذا الشعر في هذا الشطر، الذي لا يكتبه إلا شاعر، ولا يتخيله إلا شاعر، ولا يعيشه إلا شاعر:
«حبه سرابي سرية الغيم بالليل».
ما أجمل أغانينا وأهازيجنا وقصائدنا المغمورة برذاذ المطر، وريح النفل والخزامى! وما أجمل رمالنا وجبالنا التي تحتفي بالعشب وتحرض على الشعر وتصدّر الجمال!
حين نشد الرحال في الصيف للدول التي «تموت من البرد حيتانها» بحثاً عن رغوة ثلج، ونسمة عشب، ولمعة نار، لا نشعر بهذه النشوة وهذا العطر. «المطر خارج حدودنا زهرة بلا شذى، أغنية بلا لحن، صباح بلا ندى»، قلت هذا الكلام ذات مرة وأنا أشاهد حبال المطر تتمايل مع أمواج الضباب فوق أحد أجمل أنهار العالم.